فصل: تفسير الآيات رقم (30- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 35‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ثم يتابع الرجل الؤمن من آل فرعون كلامه ويقول‏:‏ يا قومِ، اني أخشى عليكم يوماً مثل يوم الأحزاب الذين تحزَّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وكل من جاء بعدهم من المعاندين الجاحدين، ولا اقول لكم هذا غلا خوفاً عليكم من ان يصيبكم ما اصاب هؤلاء الأولين من الهلاك، يوم تولّون مدْبِرين من عذاب النار فلا يكون لكم من الله مانع يمنعكم ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يهديه او يرشده‏.‏

ولقد جاء يوسفُ من قبل بالأدلَّة الواضحة، فما زلتم في شكٍ مما أتاكم به، حتى اذا مات قلتم لن يرسلَ الله من بعدِ يوسفَ رسولا ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ‏}‏‏.‏

ثم بين الله هؤلاء المسرفين المرتابين فقال‏:‏

‏{‏الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ‏}‏ فهم يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان‏.‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ‏}‏ ان يجادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏‏.‏

كما يطبع الله على قلوب المسرفين المرتابين فهو يطبعُ على قلوب جميع المتكبرين الجبارين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب‏:‏ او ان يظهر، والباقون‏:‏ وان يظهر‏.‏ وقرأ حفص ونافع ويعقوب وابو عمرو‏:‏ يُظهر الفسادَ بضم الياء ونصب الدال‏.‏ والباقون‏:‏ يَظهر الفسادُ بفتح الياء، وبضم الدال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الصرح‏:‏ البناء العالي‏.‏ الأسباب‏:‏ واحدها سبب، وهو ما يُتوصَّل به الى الغرض المطلوب‏.‏ التباب‏:‏ الخسران والهلاك‏.‏ متاع‏:‏ ما يستمتع به من كل شيء في هذه الدنيا‏.‏ دار القرار‏:‏ الجنة، دار البقاء‏.‏

لا يزال الكلام في قصة فرعون وموسى‏.‏

ظن فرعون ان الأمر بهذه البساطة فقال لوزيره هامان‏:‏ ابنِ لي صرحا عالياً لأصعد به الى السماء لعلّي أطّلع الى اله موسى هذا‏.‏ ثم قال مستهزئا‏:‏

‏{‏وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً‏}‏

وهو يعني موسى في دعواه انه رسولُ رب العالمين‏.‏

وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العملَ السيء حتى رآه حسنا، ولم يرعوِ بحال، وحاد عن سبيل الرشاد‏.‏

‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ‏}‏

ان مكر فرعون وعاقبة امره وكذبه تذهب سدى وفي خيبة ودمار‏.‏

ويأتي دور الرجل المؤمن من آل فرعون، ويستمر في نصيحته لقومه، مبيّناً لهم أن هذه الجياة الدنيا زائلة، وان الحياة الباقية هي حياة الخلد في الجنة، فيقول‏:‏ يا قوم اتّبعوني أرشدْكم الى طريق الصلاح‏.‏ يا قوم، ما هذه الحياة الدنيا الا متاع زائل لا دوام له، ‏{‏وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى كيف يكون الجزاء في الآخرة، واشار الى ان جانب الرحمة فيها غالبٌ على جانب العقاب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فمن أتى في الدنيا معصية من المعاصي مهما كانت لن يعذِّب الا بقدرها، ومن عمل صالحا، ذكرا كان او انثى، وهو مؤمن بربه مصدّق بأنبيائه ورسله، ‏{‏فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

وهذه اكبر بشرى للمؤمنين، ورحمة الله وسِعتْ كل شيء‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص وعاصم‏:‏ فأطلعَ بنصب العين‏.‏ والباقون‏:‏ فأطلعُ بارفع‏.‏ وقرأ اهل الكوفة‏:‏ وصُد بضم الصاد‏.‏ والباقون‏:‏ وصَد بفتح الصاد‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابو بكر‏:‏ يُدخَلون‏:‏ بضم الياء وفتح الخاء‏.‏ والباقون‏:‏ يدخُلون بفتح الياء وضم الخاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لا جَرَم‏:‏ لا ريبَ في‏.‏ أفوّض‏:‏ أسلّم‏.‏ حاق‏:‏ نزل‏.‏

لا يزال الكلام في قصة فرعون وقومه، وحديث المؤمن من آل فرعون‏.‏ ويظهر ان هذا الرجل كان من ذوي المكانة والنفوذ حتى جرؤ على هذا الحديث الطويل، فهو يُهيب بقومه ويحثهم على الايمان، ويتعجب من عنادهم فيقول لهم‏:‏ يا قوم إن أمركم لعجيبٌ، فإني ادعوكم الى الايمان الذي ينجيكم من النار، وتدعونني الى الكفر الله وإشراك غيره في العبادة‏.‏ وهذا يوجب دخول النار‏.‏ إنني أدعوكم إلى رُشْدكم، الى عبادة رب عزيز كثير المغفرة واسع الرحمة‏.‏

ثم أكد ان أولئك الشركاء الذي يعبدونهم لا مقدرة لهم على شيء، ولا شأن لهم في الدنيا ولا في الآخرة، وان مرد الجميع الى الله‏.‏

‏{‏وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار‏}‏ سيدخلون فيها‏.‏

ثم ختم نصيحته بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم فقال‏:‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ‏}‏

وذلك يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله، ويأخذ كل واحد منكم كتابه‏.‏

ثم لما يئس منهم قال‏:‏

‏{‏وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏‏.‏

من ثم نجّاه الله من مكرهم، وأحاط بآل فرعون العذابُ السيّء، النار يدخلونها صباحا ومساء‏.‏ هذا في الدنيا وهم في عالم البرزخ‏.‏‏.‏ ويومَ تقوم القيامة يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل الكوفة الا أبا بكر‏:‏ أدْخِلُوا آل فرعون، بقطع الهمزة‏.‏ والباقون‏:‏ ادخلوا آل فرعون، على ان آل فرعون منادى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 55‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

يتحاجّون‏:‏ يتجادلون ويتخاصمون‏.‏ الضعفاء‏:‏ الأتباع‏.‏ المستكبرون‏:‏ الرؤساء، السادة اولو الرأي فيهم‏.‏ تبعا‏:‏ تابعين لهم‏.‏ مغنون عنا‏:‏ دافعون الشر عنا‏.‏ نصيبا‏:‏ قسطا، وجزءا‏.‏ حكم‏:‏ قَضَى‏.‏ خَزنة جهنم‏:‏ القائمون عليها‏.‏ يوم يقوم الأشهاد‏:‏ يوم القيامة، والاشهاد‏:‏ الشهود الذين يشهدون على الناس‏.‏ العشيّ‏:‏ من نصف النهار الى آخره الإِبكار‏:‏ اول النهار‏.‏

اذكرْ لهم أيها النبي حين يتخاصم أهل النار فيها، فيقول الأتباع من الضعفاء للذين اضلوهم من الرؤساء‏:‏ إنا كنّا لكم في الدنيا تَبَعا، فهل انتم حاملون عنا بعض العذاب‏؟‏ فيرد المستكبرون قائلين‏:‏ إننا جميعاً في النار، هذا هو حكم الله في عباده، ولا نستطيع ان نساعدكم بشيء‏.‏ وفي سورة ابراهيم ‏{‏قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ثم خاطب الضعفاءُ خزنةَ جهنم وتوسّلوا إليهم أن يخفّف الله عنهم يوما من العذاب فأجابوهم موبّخين لهم‏:‏ ان الله تعالى أرسَل إليكم رسُلاً مكرَّمين فلم تستجيبوا لهم‏.‏ فاعترفوا بأنهم كذّبوا رسلهم‏.‏ فقال لهم خزنة جهنم‏:‏ فاذا كان الأمرُ كذلك فادعوا مهما شئتم، ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ‏}‏‏.‏

ان طلبَكم مرفوض، فلوموا أنفسَكم على ما أسلفتم‏.‏

ثم بين الله تعالى انه ينصر رسُله، والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا، ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد‏}‏ وهو يوم القيامة‏.‏ وقد يكون الشهود من الإنسان نفسه كما قال تعالى ‏{‏حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وفي ذلك اليوم لا ينفع الظالمين اعتذارُهم عما فَرَطَ منهم في الدنيا‏.‏

‏{‏وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار‏}‏

جزاؤهم الطردُ من رحمة الله وإنزالهم من جهنم في اسوأ مكان‏.‏

ثم ببين الله تعالى انه نَصَرَ موسى ومن معه، وآتاه هدى منه، واعطى بني اسرائيل التوراة الصحيحة غير المحرفة، ‏{‏هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب‏}‏ هاديةً ومذكِّرة لأصحاب العقول المدركة المفكرة‏.‏

وبعد ان بيّن أنه ينصر رسله والمؤمنين خاطب الرسولَ الكريم أن يصبر، وطمأنه إلى ان النصر له فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار‏}‏

اصبر ايها الرسول على ما ينالك من الأذى من الناس، انّ وعد الله بنصرك ونصر المؤمنين حقٌّ لن يتخلف‏.‏ ثم أكد عليه بان لا يترك الاستغفار والدعاء والتسبيح بحمده دائماً صباحاً ومساء، شكراً له على نعمه التي لا تحصى‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل الكوفة ونافع‏:‏ يوم لا ينفع الظالمين‏:‏ بالياء والباقون‏:‏ لا تنفع بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 63‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

بغير سلطان‏:‏ بغير دليل ولا حجة‏.‏ ادعوني‏:‏ اسألوني‏.‏ داخرين‏:‏ صاغرين، أذلاء‏.‏ لتسكنوا فيه‏:‏ لتستريحوا فيه‏.‏ تؤفكون‏:‏ تصرَفون عن الحق‏.‏

اعلم يا محمد ان الذين يجادلونك في دين الله بغير حجّةٍ أو برهان يعلمونه إنما يدفعهم الى ذلك ما يجدونه في صدورهم من الكيد والحسد، وعنادُهم وطمعهم في ان يغلبوك‏.‏

‏{‏مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}‏

وما هم ببالغي إرادتهم، ولن يصِلوا الى ذلك ابدا‏.‏

ثم امر رسوله ان يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين بقوله‏:‏

‏{‏فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير‏}‏

الجأ الى الله واستعنْ به فهو السميع لاقوالهم، البصيرُ بأفعالهم‏.‏

ثم بين الله تعالى للناس وضعهم في هذا الكون الكبير، وضآلتهم بالقياس الى بعض خلْق الله حتى يعلموا حقيقتهم، فيقول‏:‏

‏{‏لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏

هذا ما يفهمه أصحاب العقول المدركة، فان إعادة خلْق الانسان أهونُ بكثير من ابتداء خلقه، ومن خلْق هذا الكونِ العجيب‏.‏ ان قدرةَ اله لا تُحَدّ، فاين الانسان من هذا الكون الهائل‏؟‏‏.‏

ليس يستوي الأعمى عن الحق والبصير العارف به، ولا يستوي المؤمن العامل بإيمانه والمسيء في عقيدته وعمله، ذلك أن المؤمنين ابصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير، اما الأعمى بجهله فهو يسيء كل شيء‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ وما أقلّ ما تتذكرون‏.‏

وبعد أن قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث، أخبر بأنه واقع لا محالة‏:‏

‏{‏إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏

فآمنوا بها أيها الناس تفوزوا، وأطيعوا ربكم اذ أمركم أن تسألوه، فانه قريب يجيب داعءكم ويعطيكم‏.‏ أما الذين يتكبرون عن عبادة الخالق فجزاؤهم جهنّم يدخلونها صاغرين‏.‏

ثم شرع الله يبين بعض نعمه على الناس، وهي تُظهر عظمته تعالى، لكنهم لا يشكرون عليها فقال‏:‏

‏{‏الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏

من أكبرِ النعم على الناس ان الله جعل لهم الليلَ ليستريحوا فيه من العمل، والنهارَ مضيئا ليعملوا فيه ويكسبوا رزقهم، والله هو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعم، ولا يعترفون بها‏.‏ ‏{‏نَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ثم بين الله كمالَ قدرته وانه الاله الواحد فقال‏:‏

‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏

ذلكم الذي انعم عليكم بهذه النعم الجليلة هو الله خالق هذا الكون وما فيه، الاله الواحد المنفرد في الألوهية‏.‏

‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏

فإلى اي جهة تُصرفون عن عبادته الى عبادة غيره‏!‏‏.‏

ثم ذكر ان هؤلاء الجاحدين ليسوا ببدعٍ في الأمم قبلهم، فقد سبقهم الى هذا جحود خلق كثير فقال‏:‏

‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ‏}‏

فكما ضلّ هؤلاء بعبادة غير الله ضل الذين قبلهم بلا دليل ولا برهان‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الكوفة‏:‏ تتذكرون بتاءَين، والباقون‏:‏ يتذكرون بالياء‏.‏ وقرأ ابن كثير ورويس سيدخَلون‏:‏ بضم الياء وفتح الخاء‏.‏ والباقون‏:‏ سيدخُلون بفتح الياء وضم الخاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

قرارا‏:‏ مستقرا تستقرون عليها‏.‏ بناء‏:‏ مبنية بنظام لا يختل‏.‏ فتبارك‏:‏ فتقدّس وتنزه‏.‏ طِفلاً‏:‏ يعني اطفالا، لأنه يطلق على المفرد والجمع‏.‏

في هذه الآيات يؤكد الله تعالى حقيقة الوحدانية، كما يؤكد على حقيقة ألوهيته وربوبيته‏.‏ فالله وحده هو الذي جعل لنا هذه الأرض لنستقر عليها، وجعل السماء بناءً محفوظا زيّنه بهذه النجوم والكواكب التي نراها‏.‏ ولقد خلقَ الانسانَ فأبدع تصويره، وجعله في احسن تقويم ‏{‏وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات‏}‏ المباحةِ ما يلذّ لكم، ‏{‏فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين‏}‏، الذي يخلق ويقدّر ويدبّر‏.‏ وهو الذي لا تنبغي الألوهية إلاّ له، ولا تصلح الربوبية لغيره، بما انه المنفرد بالحياة‏:‏ ‏{‏هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ فادعوه باخلاص الدين له، واحمدوه في الدعاء والثناء لأنه مالكُ هذا الكون بما فيه‏.‏

وبعد ان اثبت سبحانه لنفسه صفاتِ الجلال والكمال، أمر رسولَه الكريم أنه منهيٌّ عن عبادة غيره مما يَدْعون‏.‏‏.‏ قل لهم ايها الرسول‏:‏ إني نُهيت عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله ‏{‏لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي‏}‏ وأُمرت ان أنقاد في كل اموري لله رب هذا الكون كله‏.‏

ثم يستعرض آية من ىيات الله في انفسهم بعدما استعرض آياته في هذا الكون العجيب، وهذه الآية هي الحياة الانسانية واطوارها العجيبة فيقول‏:‏

‏{‏هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

رتّب الله سبحانه تطور حياة الانسان في ثلاث مراتب‏:‏ الطفولة، وبلوغ الأشُدّ في الشباب والكهولة، والشيخوخة‏.‏ ومن الناس من يُتوفى قبل سن الشباب، او الشيخوخة‏.‏ والله يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقِلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم‏.‏

ثم بعد هذه الأدلة على وجود الاله القادر، يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة، وحقيقة الخلق والانشاء جميعا‏:‏

‏{‏هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ‏}‏

وتكثر الاشارة في القرآن الكريم الى آيتي الحياة والموت، لأنهما تلمسان قلب الانسان بشدّة وعمق، فالحياة ألوان، والموت ألوان، منها رؤية الأرض الميتة ثم رؤيتها مخضرة بألوان النبات والزهور، وكذلك رؤية الاشجار وهي جافة ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، وغيرها وغيرها‏.‏ وعكس هذه الرحلة من الحياة الى الموت، كالرحلة من الموت الى الحياة، الى حقيقة الانشاء وأداة الابداع، وهو في ذلك كله كما يقول‏:‏

‏{‏فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ‏}‏ بلا معاناة، ولا توقف ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 78‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

بالكتاب‏:‏ بالقرآن‏.‏ يُسحبون‏:‏ يجرون‏.‏ في الحميم‏:‏ في الماء الحار‏.‏ يُسْجَرون‏:‏ يحرقون‏.‏ ضلوا عنا‏:‏ غابوا عنا‏.‏ تفرحون‏:‏ تبطرون وتسرّون‏.‏ تمرحون‏:‏ تختالون من شدة الفرح‏.‏ المثوى‏:‏ مكان الاقامة‏.‏

الم تنظر أيها الرسول الى هؤلاء الجاحدين كيف يجادلون في آيات الله الواضحة، ويحاولون أن يبطلوها، وكيف يُصرفون عن النظر فيها، ويصرّون على ضلالهم‏.‏ لقد كذّبوا بالقرآن، وبما ارسلنا به رسُلَنا دميعا، فسوف يرون جزاء تكذيبهم حين تكون الأغلال في رقابهم يُجرون بها في الماء الحار، ثم يُحرقون في نار جهنم، ثم يقال لهم‏:‏ اين ما كنتم تعبدون من دون الله‏؟‏ فيقولون‏:‏ لقد غابوا عنا ‏{‏بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً‏}‏ بل تبيَّن لنا أننا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يُعتد به‏.‏ وكما أضل الله تعالى هؤلاء، كذلك يضلُّ الكافرين‏.‏

وهذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب انما هو جزاء بسبب ما كنتم تفرحون وتبطرون وتتكبرون في الارض بغير الحق، وما كنتم تتمتعون به وتمرحون‏.‏ ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فبئس منزل المتكبرين‏.‏

ثم امر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، وأكَّدَ ان وعد الله له بهلاك الكافرين حق، وسيأتيهم هذا العذاب إما في حياتك يا محمد او حين يرجعون الينا، او نتوفينك قبل ان تراه، ‏{‏فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ جميعا فنجازيهم بما كانوا يعملون‏.‏

ثم يسلي الرسولَ الكريم ومن معه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏

وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء‏:‏ 164‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏

يبين الله تعالى ان الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والانذار وتعليم الناس، أما لمعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته‏.‏ ولا يمكن لرسول ان يأتي بمعجزة الا بأمر الله ومشيئته‏.‏ فاذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا او الآخرة قضى بين الناس بالعدل‏.‏

‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون‏}‏

ولم يعد هنا كمجال للتوبة ولا للرجعة إلى الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 85‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

الأنعام‏:‏ الابل والبقر والغنم‏.‏ الفُلك‏:‏ السفن‏.‏ بالبينات‏:‏ الآيات الواضحة‏.‏ وحاق بهم‏:‏ احاط بهم‏.‏ بأسنا‏:‏ شدة عذابنا‏.‏ سنّة الله‏:‏ طريقته‏.‏

يبين الله تعالى في هذه الآيات بعضَ هذه المعجزات التي يطلبها الجاحدون، ولكنهم لا يحسّون بها لأنهم ألِفوها، ثم يذكّرهم بما في هذه الآيات من نعم كبار‏.‏

ان الله تعالى خلق هذه الأنعام من الإبل والغنم والبقر، وذلّلها للانسان، منها ما يركبه ويستعمله في قضاء حاجاته، ومنها ما يأكله‏.‏ فقد كانت وسائط السفر من هذه الانعام ولا يزال هناك حاجة لها في التنقّل بين الاماكن الوعرة في الجبال رغم وجود الوسائط الحديثة‏.‏ ومنها ما يأكلونه ويشربون لبنه، كما يستعملون جلودها‏.‏

‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏

وقد تقدم في سورة النحل في الآيات 5 و6 و7 و8 بأوسع من ذلك‏.‏

ثم بين انه يريكم آياته الباهرة التي لا مجال لانكارها بقوله‏:‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ‏!‏‏}‏‏.‏

والله تعالى يريكم دلائلَ قدرته، لا تقدِرون على إنكار شيء منها لأنها واضحة لا يُنكرها من له ادنى عقل‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

تقدم هذا المعنى في اكثر من آية في سورة يوسف والحج والروم‏.‏ فلو انهم اعتبروا بما رأوا من آثار الأمم السابقة واتّعظوا بها لأغناهم ذلك عن جحودهم وكفرهم‏.‏

وتلك المم السابقة حين جاءتهم رسُلهم بالشرائع والمعجزات الواضحة، فرحوا بما عندهم من علوم الدنيا، واستهزأوا بالمرسَلين، فنزل بهم العذابُ وأحاط بهم‏.‏ فلما رأوا العذاب آمنوا بالله وحده وكفروا بآلهتهم التي عبدوها، ولكن ذلك لم يُفِدْهم شيئاً‏.‏ لقد فات الأوان، فلا يفيد الندم‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ وتلك سنَّةُ الله قد سبقت في عباده ان لا يقبل الايمان حين نزول العذاب، ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ وسنة الله ثابتة لا تختلف ولا تحيد عن الطريق‏.‏

اللهم اقبل توبتنا، وأحسن ختامنا، واسترنا واغفر لنا يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

فصلت‏:‏ بينت‏.‏ لا يسمعون‏:‏ لا يطيعون‏.‏ أكنّة‏:‏ أغطية، جمع كنان‏.‏ وقْر‏:‏ صمم‏.‏ غير ممنون‏:‏ غير مقطوع، فهو دائم بلا مَنّ‏.‏

حاميم‏:‏ حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن‏.‏

ان هذا القرآن منزل من عند الله الرحمن الرحيم‏.‏ وتتكرر هاتان الصفتان من الرحمة دائما لأن الله تعالى رحيم بعباده سبقت رحمته غضبَه، وحتى يعلم الناس ان الله تعالى رحمن رحيم بخلقه، بابه مفتوح لهم دائما حتى لا يقنطوا من رحمته، فالقرآن رحمة من الله تعالى، والرسول الكريم رحمة من الله ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

وهذا القرآن كتاب بُيّنت آياته وفصّل فيه الحرام والحلال والنصائح والمواعظ والاخلاق، بلغةٍ عربية فصيحة، ميسّراً فهمه لقوم يعلمون معانيه ومقاصده، ومراميه الانسانية الخالدة‏.‏

ولقد أُنزل هذا الكتاب العظيم بشيراً لمن أطاع ونذيرا لمن عصى‏.‏

‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ فلم يطيعوه ولم يقبلوه كأنهم لا يسمعون‏.‏

ثم صرحوا بإعراضهم عنه فقالوا‏:‏ إن قلوبنا مغلقة دونه عليها الأغطية، فلا تقبله، وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تدعونا اليه، وبيننا وبينك يا محمد حجاب ساتر يمنعنا من قبول ما جئت به‏.‏

‏{‏فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ‏}‏

فاعمل ما شئت، فاننا لا نَحيد عن موقفنا منك ومن دعوتك‏.‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ ما أنا إلا بشر مثلكم يوحَى إليّ من الله بأن الهكم الذي يجب ان تبعدوه هو الله الواحد الأحد‏.‏

‏{‏فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فاستقيموا في افعالكم متوجهين اليه، واطلبوا اليه المغفرة فانه رحيم يحب التوابين، والويلُ والهلاك لمن أشرك به، وبخل بمالِه فلم يعط الفقراء والمحتاجين قليلا منه‏.‏

‏{‏وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ‏}‏

وينكرون البعثَ والجزاء‏.‏ ونرى ان منع الزكاة مقرونٌ بالكفر لأن أحبَّ شيء الى الانسان هو المال، وهو شقيق الروح، ولذلك شدّد الله تعالى في هذا الموضوع وأمَرَ بالبذل والعطاء‏.‏

والزكاة كانت معروفة قبل الهجرة، وهذه الآية مكية، ولم تكن محدَّدة، وانما فُرضت وحُددت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة‏.‏

ثم بين الله ما للمؤمنين عنده تعالى حتى يظهر الفرقُ بين المحسن والمسيء فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏

جزاؤهم دائم غير مقطوعٍ بلا منٍّ ولا أذى عند رب غفور رحيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

أندادا‏:‏ امثالا‏.‏ الرواسي‏:‏ الجبال الثابتة الرواسخ‏.‏ أقواتها‏:‏ أقواتَ اهلها‏.‏ سواء‏:‏ كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة‏.‏ استوى الى السماء‏:‏ قصد نحوها‏.‏ دخان‏:‏ مادة غازية أشبه بالدخان‏.‏ فقضاهن‏:‏ خالقهن‏.‏ امرها‏:‏ شأنها‏.‏ بمصابيح‏:‏ بكواكب ونجوم كما نراها‏.‏ وحفظا‏:‏ حفظناها حفظا من الآفات‏.‏

قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين‏:‏ كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء أمثالاً له‏!‏ ‏{‏ذَلِكَ رَبُّ العالمين‏}‏‏.‏ وجعل في الأرض جبالاً ثابتة من فوقها لئلا تَميدَ بكم، وجعلَها مباركة كثيرة الخيرات، وقدر فيها أرزاقَ أهلِها حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في اربعة ايام متكاملة‏.‏

وقد جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم والايام، ففي سورة الحج ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وفي سورة السجدة الآية 5 ‏{‏يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ وفي سورة المعارج الآية 4 ‏{‏تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏.‏‏}‏ ان هذا اليوم الذي نعيش فيه ونعرفه مرتبطٌ بالأرض ودورانها حول نفسها، فاذا خرجنا من منطقة الأرض الى الفضاء الواسع الفسيح اختلفت المقاييس، ولم يعدْ للزمن حدود، وان سَنَتَنا 365 يوما، بينما سنة عطارد وهو اقرب الكواكب الى الشمس 88 يوما فقط حسب دورته حول الشمس، وان ابعد الكواكب وهو بلوتو تقدّر سنته بنحو 250 سنة، لأنه يتم دورة واحدة بهذا الزمن، وهكذا فان الزمن نسبي‏.‏ ان ايام الله هو يعلم مداها، ولا شك بانها أطول بكثير من ايام الأرض المعروفة‏.‏

‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ‏}‏

ثم توجهتْ إرادته تعالى الى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن، وخلقَ السموات والأرض على وفق ارادته، فقال للسماء والأرض، ائتيا طائعين او مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما، قالتا‏:‏ أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم‏.‏

والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره‏.‏ فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه، واوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات الينا التي نعيش على اطرافها، وهي المعروفة بدرْب التبّانة، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة الف مليون سنة ضوئية‏.‏ وجعل لهذه الارض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء‏.‏

‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم‏}‏ الذي يمسك هذا الكون، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ سواءٍ بالجر‏.‏ والباقون سواءً بالنصب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

صاعقة‏:‏ عذاب شديد ينزل بهم‏.‏ من بين أيديهم ومن خلفهم‏:‏ من كل مكان‏.‏ ريحاً صرصرا‏:‏ باردة تهلك بشدة بردها‏.‏ نحسات‏:‏ نكدات مشئومات‏.‏ أخزى‏:‏ اذل‏.‏ الهُون‏:‏ الهوان، الذل‏.‏

فإن أعرضَ المشركون عن الإيمان، فقل لهم ايها الرسول‏:‏ انني أنذركم بعذابٍ شديد مثل ما حلّ بعادٍ وثمود، اذ جاءتهم الرسُل من جميع النواحي ونصحوهم أن لا يعبدوا الا الله، فردّوا عليهم بقولهم‏:‏ لو أراد الله إرسالَ رسولٍ لأنزل الينا ملائكة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ فاستكبروا في الارض بغير حق وقالوا مغترّين بأنفسهم‏:‏ من أشدُّ منا قوة‏؟‏ قالوا ذلك ولم يروا ان الله الذي خلقهم هو اشد منهم قوة، ‏{‏وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

وبعد ذلك يبين الله مصيرهم المشئوم فيقول‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ريحاً باردة تهلك بشدّة بردها، ولها صوتٌ مخيف، ارسلناها في ايام مشئومة لنذيقَهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ خِزيا، يوم لا يستطيع احد ان ينصرهم منه‏.‏

واما ثمود فإننا بينّا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاختاروا الضلالة على الهدى، فأصابتْهم صاعقة أحرقتْهم وتركتهم في ذلٍ وهوان ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الذنوب والجحود‏.‏

وأما الذين آمنوا وكانوا يعملون الصالحات ويتقون ربّهم فقد نجّيناهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع‏:‏ نحْسات باسكان الحاء‏.‏ والباقون‏:‏ نحِسات بكسر الحاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يوزَعون‏:‏ يساقون ويُدفعون الى جهنم‏.‏ أرداكم‏:‏ اهلككم‏.‏ مثوى‏:‏ مقام‏.‏ وإن يَستعتبوا‏:‏ يطلبوا العتبى والرضا‏.‏ فما هم من المعتَبين‏:‏ من المجابين الى ما يطلبون‏.‏

اذكر لهم أيها الرسول يومَ يُحشَر أعداءُ الله الى النار، وهم يساقون توجُرهم الملائكة، حتى اذا وصلوا وسئلوا عن أعمالهم السيئة في الدنيا، فانكروا- شهدَ عليهم سمعُهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون في الدنيا‏.‏

فيقولون لجلودهم‏:‏ لم شهدتم علينا‏؟‏ فتقول الجلود‏:‏ أنطقَنا الله الذي أنطقَ كلَّ شيء وهو الذي خلقم من العدم، وإليه ترجعون‏.‏

وما كان باستطاعتكم ان تُخفوا أعمالكم عن جوارحكم مخافةَ ان تشهد عليكم، ولكن كنتم تظنون ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون‏.‏ وهذا الظنّ الفاءد الذي كان منكم في الدنيا أوقعَكم الآن فأهلككم ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين‏}‏‏.‏

فان يصبروا على ما هم عليه فالنارُ مأواهم، وان يطلبوا رضا الله عليهم فما هم بِمُجابين الى طلبهم، وهذا مثلُ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ نافع ويعقوب‏:‏ ويوم نحشر بالنون، والباقون‏:‏ يحشر بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قيضنا‏:‏ هيّأنا‏.‏ قرناء‏:‏ جمع قرين وهم الأصحاب والإخوان من غواة الجن والإنس‏.‏ والْغَوا فيه‏:‏ عارِضوه باللغو الباطل حين يُقرأ لتشوشوا عليه‏.‏ دار الخلد‏:‏ دار الاقامة الخالدة‏.‏

لا يزال الحديث عن المشركين الجاحدين، ويبين هنا ان السبب في غوايتهم هم قرناءُ السوء الذين زيّنوا لهم الكفر والضلال، وأغروهم بأنه لا بعثٌ ولا حساب، وحقَّ عليهم العذاب ممع أممٍ قد خلتْ من قبلهم من الجن والإنس ممن كانوا على شاكلتهم، وان هؤلاء جميعاً، ‏{‏كَانُواْ خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله كيف كان مشركو قريش يكذّبون بالقرآن وكيف يستقبلونه باللغو والتشويش‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏

كانوا يوصون بعضهم بأن لا يصغوا الى القرآن، وان يشوّشوا بأصواتهم رجاءَ ان يكونوا هم الغالبين‏.‏

ثم اوعد الله الكفارَ بالعذاب الشديد وأقسمَأن يذيقَ الذين كفروا عذاباً شديداً جزاء فعلِهم السيّء وإعراضِهم وشغبهم‏.‏

ثم بيّن الله تعالى انهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلُبون الانتقامَ ممن أضلّوهم من شياطين الإنس والجن، ليطأوهم بأقدامهم وينتقموا منهم شرّ انتقام، ولكنّ كلّ ذلك لا يُجديهم ولا يخفّف عنهم العذاب‏.‏ وهكذا يصدُقُ عليهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 36‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

استقاموا‏:‏ ثبتوا على الايمان والعمل الصالح‏.‏ أولياؤكم‏:‏ نصراؤكم‏.‏ ما تدعون‏:‏ ما تطلبون‏.‏ نزلاً‏:‏ ضيافة حسنة‏.‏ ادفع بالتي هي أحسن‏:‏ رُدَّ الاساءة باللين والحسنى‏.‏ وليّ حميم‏:‏ صديق عزيز‏.‏ وما يلقّاها‏:‏ وما يعمل هذا العمل ويتحمله‏.‏ الا ذو حظ عظيم‏:‏ الا ذو نصيب وافر من الخير‏.‏ ينزغنَّك‏:‏ يوسوسنَّ لك ويغرينك بالشر‏.‏ فاستعذ بالله‏:‏ التجئ اليه‏.‏

هذه الآيات الكريمة دستورٌ عظيم في الأخلاق، وحسن المعاشرة، وكيفية الدعوة الى الله والتحلّي بالصبر والأناة، ولو أننا اتبعناها حقا، ولو أن وعّاظنا وأئمة مساجدنا تحلَّوا بها وساروا على هديها- لنفع الله بهم الناس، وهدى الكثيرَ الكثير منهم على أيديهم، ولاستقامت الأمور، وارتقت أحوالنا، هدانا الله الى التحلّي بكل مكرمة‏.‏

ان الذين قالوا ربنا الله اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته، ثم استقاموا في أعمالهم- أولئك تحفّهم الملائكة، وتبشّرهم بالفلاح والفوز بالجنة التي وعدَهم بها الله، وهو يقول لهم‏:‏ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة والتكريم، ولكم في الجنة ما تشتهي أنفسكم وكلّ ‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏ أي ما تطلبون من الطيِّبات ضيافةً لكم من الله الغفور الرحيم‏.‏

ثم بين الله تعالى صفة الداعي الى الله بالأقوال الحسنة والعمل الصالح ليكون قدوةً ويقرّ بأنه من المسلمين المخلصين‏.‏ وبعد ذلك أعقب بالدعوة الى حسن المعاملة بين الناس فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة‏}‏

ولا تستوي الخَصلة الحسنة مع الخَصلة القبيحة، ادفعْ ايها المؤمن الاساءة ان حاءتك بالقول الحسن والِّين، فاذا فعلتَ ذلك انقلب العدوُّ صديقاً حميما، وناصرا مخلصا‏.‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏

وما يتحلى بهذه الأخلاق العالية الا الصابرون ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ وما يُرزقها إلا ذو نصيب عظيم من خِصال الخير والكمال‏.‏

وان يصبْك من الشيطان وسوسةٌ فاستعذْ بالله، إن علمه محيطٌ بكل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 46‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لا يسأمون‏:‏ لا يملّون‏.‏ خاشعة‏:‏ هامدة لا حياة فيها‏.‏ اهتزت‏:‏ تحركت‏.‏ وربتْ‏:‏ زادت‏.‏ الذين يلحِدون في آياتنا‏:‏ ينحرفون عن القرآن الكريم‏.‏ من بين يديه ومن خلفه‏:‏ من جميع جهاته‏.‏ حميد‏:‏ محمود‏.‏ في آذانهم وقرٌ‏:‏ فيها صمم‏.‏

يبين الله في هذه الآيات الكريمة الدلائلَ على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، ومنها الليلُ والنهار والشمس والقمر، ثم ينبّه الناس أن لا يسجدوا للشمس ولا القمر، بل ان يعبدوا الله وحده الذي خلق هذا الكون العجيب‏.‏ ‏(‏وهنا مكان سجود، اذا قرأ القارئ القرآن وبلغ هاتين الآيتين عليه ان يسجد‏)‏‏.‏ فان استكبر هؤلاء المشركون الذي يعبدون غير الله عن السجود، فان الله لا يعبأ بهم، فعنده الملائكة يسبّحون له بالليل والنهار، لا يملّون من ذلك ولا يسأمون‏.‏

ثم بين بعد ذلك بآية أرضية تراها العين في كل حين، وهي حال الأرض‏:‏ هامدة يابسة لا نبات فيها، تنتعش وتهتزُّ بعد ان ينزل المطر‏.‏‏.‏ والذي أحياها هذه الحياة قادر على أن يحيي الموتى، ‏{‏إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ان الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ‏:‏

‏{‏أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة‏؟‏‏}‏ انهم لا يستوون‏.‏ وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

لقد كفر هؤلاء الملحدون بالقرآن لمّا جاءهم، وإنه لكتابٌ عزيز يغلب كل من حاول ان يعارضه، لا يأتيه الباطل أبداً من اي ناحية من نواحيه، فهو ‏{‏تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏، حكيمٍ بتدبير شئون عباده، محمود على ما أسدى اليهم من النعم التي لا تحصى‏.‏

ثم بعد ذلك سلّى الله رسولَه الكريم عمَا يصيبه من أذى المشركين وطَعْنهم فيه وفي الكتاب العزيزن وحثَّه على الصبر، وان لا يضيق صدره بما يقولون، فقد قيل مثلُه للرسُل الذين جاؤا قبله، ومع كل ذلك ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العَجَم‏؟‏ هذا ممع أنه لو نزل بلغة اعجمية لأنكروا ذلك ايضا، وقالوا ما لنا ولهذا‏؟‏

ثم قال لرسوله الكريم قل لهم‏:‏ ان هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين، اما الذين كفروا ولم يؤمنوا به، فكأنهم صمّ، وهو عليهم عَمًى فلا يبصرون حُججه ومحاسنه‏.‏

ثم مثّل حالهم، باعتبار عدم فهمهم له، بحال من ينادَى من مكان بعيد فهو لا يسمع من يناديه‏:‏ ‏{‏أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏‏.‏

قال اهل اللغة‏:‏ تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك‏:‏ أنت تنادَى من مكان بعيد، وللفهيم ثاقب الرأي‏:‏ انك لتأخذ الأمور من مكان قريب‏.‏

ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه، ولولا قضاءٌ سبقَ من ربك ايها النبي ان يؤخر عذابَ المكذبين بك الى أجلٍ محدّد عنده- لقضى بينهم باستئصالهم، وان كفّار قومك لفي شكٍّ من القرآن‏.‏

ثم ختم هذا الجزء من القرآن بان الجزاء من جنس العمل، وان الله لا يظلم احدا فقال‏:‏

‏{‏مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ قالون وابو عمرو‏:‏ آاعجمي بمد الهمزة الاولى وتسهيل الثانية‏.‏ وقرأ حفص وابن كثير وابن ذكوان‏:‏ أأعجمي بهمزتين بغير مد‏.‏ وقرأ هشام‏:‏ أعجمي على الإخبار‏.‏

وهذا بيان واضح للناس، والله قد أعذر ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏‏.‏

اللهم وفقنا للعمل الصالح واختم لنا بخير، واسترنا يا رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

الساعة‏:‏ يوم القيامة‏.‏ اكمامها‏:‏ جمع كِمّ بكسر الكاف، برعوم الثمرة ووعاؤها، وكذلك الكُم بضم الكاف‏:‏ وعاء الثمر والزهر‏.‏ آذنّاك‏:‏ أعلمناك‏.‏ ما منا من شهيد‏:‏ ليس منا من يشهد لك شركاء‏.‏ وظنوا ما لهم من محيص‏:‏ وايقنوا ما لهم من مهرب‏.‏ لا يسأم‏:‏ لا يملّ‏.‏ من دعاء الخير‏:‏ من طلب المال، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها‏.‏ الشر‏:‏ الفقر والمرض وكل سوء‏.‏ والقنوط‏:‏ بضم القاف، ظهور اثر اليأس على الانسان من المذلة والانكسار‏.‏ الرحمة‏:‏ الصحة وسعة العيش وكل ما يسرّ الانسان‏.‏ والضرّاء‏:‏ ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما‏.‏ هذا لي‏:‏ هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل‏.‏ الحسنى‏:‏ الكرامة‏.‏ عذاب غليظ‏:‏ كثير وكبير‏.‏

بعد تلك الجولة مع المشركين، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم- يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل الى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده، فذاك لا يعلمه الا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله، فلا يعلم احد متى تخرجُ الثمر من اكمامها، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع‏.‏ ثم ذكر سبحانه انه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَآئِي‏}‏ الذين كنتم تعبدونهم من دوني‏؟‏ فيكون جوابهم‏:‏ ‏{‏آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ‏}‏ إننا نُعلمك يا الله انه ليس منا الآن من يشهد ان لك شركاء‏.‏ وغاب الشركاء السابقون عنهم فلا يرجون منهم نفعا، وايقنوا انه لا مهرب لهم من العذاب‏.‏

ثم بين الله تعالى ان الانسان متبدّل الأحوال، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة واقبلت عليه الدنيا- تكبّر وصعَّر خدّه، وان اصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج‏.‏ واذا انعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول‏:‏ ‏{‏هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى‏}‏‏.‏

كل هذا من الغرور والضلال‏.‏ ولكن الله تعالى يبين لهم ان تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم اذ يقول‏:‏ ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ وهو عذاب جهنم خالدين فيها ابدا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وحفص وابن عامر من ثمرات بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ من ثمرة بالإفراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

نأى بجانبه‏:‏ تكبّر واختال‏.‏ عريض‏:‏ كثير‏.‏ أرايتم‏:‏ أخبروني‏.‏ في شقاق بعيد‏:‏ في خلاف كبير‏.‏ الآفاق‏:‏ جمع أفق بضم الفاء واسكانها‏.‏ والأفق‏:‏ الناحية ومنتهَى ما تراه العين من الأرض‏.‏

واذا أنعمنا على الإنسان ورزقناه سعة العيش والصحة- أعرضَ عما دعوناه إليه وتكبّر واخال، واذا مسّه الشّر وأصابته شدة من فقر او مرض اطال الدعاء والتضرع الى الله لعلّه يكشف عنه تلك الغُمة‏.‏ وتقدم مثله في سورة يونس 12، وسورة هود 9 و10 وسورة الاسراء 83‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ أخبِروني ان كان هذا القرآن الذي تكذّبون به من عند الله ثم كفرتم به، افلا تكونون بعيدين عن الحق والصواب‏؟‏‏.‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏

ينري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء‏.‏ فقد كشف العلم عن امور كثيرة عن الأرض وما عليها، وعن النظام الشمسي وما فيه، وان هذه الارض وما حولها ما هي الا ذرة صغيرة تابعة للشمس، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير، وان كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي الا ذرة من علم الله‏.‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ وان كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏

كفى بالله شهيدا على افعال عباده واقوالهم، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه‏.‏‏.‏ ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن، وفيها البيان الكافي لاثبات وحدانيته، وتنزيهه عن كل نقص‏!‏‏!‏

ثم بين الله سببَ عنادهم واستكبارهم بعد كل ما تقدم من حججٍ وبيّنات فقال في الختام‏:‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ‏}‏‏.‏

انهم في شك عظيم من البعث والجزاء ولقاء ربهم، ولذلك كفروا، والله تعالى محيطٌ بكل صغير وكبير، لا يفوته شيء في هذا الكون الكبير، واليه مردّ الجميع‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يتفطّرن‏:‏ يتشقّقْن من خشية الله وعظمته‏.‏ من فوقهن‏:‏ من جهتهن الفوقانية‏.‏ حفيظ عليهم‏:‏ رقيب عليهم‏.‏ لتنذر‏:‏ لتخوّف‏.‏ وما أنت عليهم بوكيل‏:‏ لست موكلاً بهم‏.‏ أُم القرى‏:‏ مكة‏.‏ يوم الجمع‏:‏ يوم القيامة، سمي بذلك لاجتماع الخلائق‏.‏ الفريقك الجماعة‏.‏ السعير‏:‏ النار الموقدة المتأججة‏.‏

حم عسق‏:‏ تقرأ هكذا‏:‏ حاميم عَين سِين قاف، وقد تقدم الكلام على مثلها اكثر من مرة‏.‏

يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة الى توحيدِ الله، والإيمان باليوم الآخر، وأمرِ النبوة، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع‏.‏ وهذا كله إنما يُوحى اليك ايها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم‏.‏

ثم بين الله تعالى ان ما في السموات والأرض تحتَ قبضته وفي ملكه، له التصرف فيه وحده ايجاداً وعدماً، وان السمواتِ والأرض على عِظَمِها تكاد تتشقّق فَرَقاً من هيبته وجلاله، وان الملائكة يسبّحون بحمد ربهم وينزهونه عما لا يليق به، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين‏.‏ وبين بوضوح ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ ثم أتبع ذلك بتسلية الرسول الكريم بأنه ليس رقيباً ولا وكيلاً على المشركين حتى يستطيع ردَّهم الى سواء السبيل، وما هو الا نذيرٌ يبلّغهم، وحسابُهم على الله‏.‏

ثم بيّن بوضوح انه تعالى أنزل على رسوله قرآناً عربياً بلغة قومه ليفهموه، لينذر أهلَ مكة ومن حولهم من العرب ابتداءً ثم ينشرونه في العالم‏.‏ وهذه سُنة الله كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وكذلك لتنذرَهم يا محمد أن يوم القيامة آتٍ لا شك فيه، وان الناس في ذلك اليوم فريقان‏:‏ ‏{‏فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير‏}‏ الأول يدخل الجنة بايمانه وما قدّم من صالح الاعمال، والثاني يدخل النار بكفره وما قدّم من سيء الاعمال‏.‏

ثم ذكر الله تعالى ان حكمته اقتضت ان يكون الإيمان اختياراً، ولم يشأ أن يكون قسراً وجبرا ‏{‏وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ فمن آمن وأناب الى الله وعمل صالحاً افلح وفاز بالسعادة الأبدية ‏{‏والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحده‏:‏ كذلك يوحى اليك بفتح الحاء‏.‏ والباقون‏:‏ يوحي بكسر الحاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

أولياء‏:‏ ناصرين‏.‏ أنيب‏:‏ ارجع اليه‏.‏ فاطر السموات والأرض‏:‏ خالقهما ومبدعهما‏.‏ من أنفسكم ازواجا‏:‏ من جنسكم، وعبّر بانفسكم لأن اقرب شيء الى الانسان زوجته‏.‏ ومن الانعام ازواجا‏:‏ ذكراً وانثى‏.‏ يذرؤكم فيه‏:‏ يكثركم بهذا التدبير المحكم، ذرأ الله الخلق‏:‏ بثّهم وكثّرهم‏.‏ مقاليد، واحدها مقلاد ومقليد‏:‏ مفاتيح‏.‏ يبسط الرزق‏:‏ يوسعه‏.‏ ويقدر‏:‏ يضيّقه‏.‏ أقيموا الدين‏:‏ حافظوا عليه وثبتوا دعائمه‏.‏ ولا تتفرقوا فيه‏:‏ لا تختلفوا فيه‏.‏ كبُرَ على المشركين‏:‏ عظُم وشقّ عليهم‏.‏ يجتبي‏:‏ يصطفي‏.‏ بغياً بينهم‏:‏ ظلماً وتجاوزا لحدود الله‏.‏

ان هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دونا الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

ثم بيّن الله تعالى ان مردّ الحكم والفصل اليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم‏.‏ ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم ان يقول لهم‏:‏

‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏

وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في انه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه الى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

‏{‏فَاطِرُ السماوات والأرض‏}‏

الله ربي وربكم خالقُ السموات والارض على احسن مثال‏.‏

‏{‏جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ‏}‏

خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا اليها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وعبّر بقوله «من انفسكم» لأن أقربَ انسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه‏.‏ وخلق لكم من الانعام أزواجا ذكورا وإناثا‏.‏

‏{‏يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ‏}‏

لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم‏.‏

ثم بين بعد ذلك انه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏، ‏{‏وَهُوَ السميع البصير‏}‏، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم، وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض‏.‏

‏{‏يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ‏}‏

يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء‏.‏

‏{‏إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏

لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط‏.‏

ثم بين الله تعالى بعد ذلك انه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الاعمال، والكف عن المحارم وإيذاء الخلق‏.‏‏.‏ لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم الى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وان لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم الى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للايمان وإقامة الدين من يرجع اليه‏.‏

والمشركون ما خالفوا الحقّ الا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ‏}‏

لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين الى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا‏.‏

وان اهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وانما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم ‏{‏لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ فهم في حَيرة من امرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

استقمْ‏:‏ اثبتْ وثابر على دعوتك‏.‏ لا حجة بيننا‏:‏ لا خصومة ولا جدال‏.‏ يحاجّون في الله‏:‏ يخاصمون في دينه‏.‏ من بعد ما استُجيب له‏:‏ من بعد ما آمن الناسُ واستجابوا له‏.‏ داحضة‏:‏ باطلة، زائفة‏.‏ الميزان‏:‏ العدل‏.‏ الساعة‏:‏ القيامة‏.‏ مشفقون‏:‏ خائفون‏.‏ يعلمون أنها الحق‏:‏ يعلمون ان قيامة الساعة حق‏.‏ يمارون‏:‏ يجادلون‏.‏

بع ان امر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة الى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها‏.‏‏.‏ فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد الى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين‏.‏ وقل‏:‏ آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، واليه المرجع والمآل‏.‏

ثم بين ان الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر اليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة‏.‏ إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما انزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل‏.‏‏.‏ وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب‏.‏

الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا الا من قبيل الاستهزاء، اما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون ان ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه‏.‏

وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

حرثَ الآخرة‏:‏ العمل الصالح الباقي‏.‏ حرث الدنيا‏:‏ متاعها من مال وبنين وغيرهما‏.‏ يقال حرثَ المال‏:‏ جمعه، وكسبه، واحترثه مثلُه‏.‏ أم لهم شركاء‏:‏ شركاء في الكفر‏.‏ شرعوا لهم‏:‏ زينوا لهم‏.‏ ما لم يأذن به الله‏:‏ كالشرك وانكار البعث والعمل للدنيا فقط‏.‏ كلمة الفصل‏:‏ هي الحكم والقضاء منه تعالى بتأخيرهم الى يوم القيامة‏.‏ روضات الجنات‏:‏ اطيبُ بقاعها وأجملها‏.‏

يبين الله تعالى أنه لطيف بعباده، ومن لُطفه انه يرزق من يشاء كما يشاء، وانه القويّ الذي لا يُقهر ولا يغلب، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏

ثم بين ان من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة- يضاعَف له اجره اضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس لخ في الآخرة نصيب من نعيمها‏.‏ ومثلُ ذلك في سورة آل عمران ‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏‏.‏

ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وانكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم الى يوم معلوم‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم‏.‏ وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم‏.‏

‏{‏ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏

ذلك هو الجزاء العظيم الذي اعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏23‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

في القربى‏:‏ في القرابة التي بيني وبينكم، او في قرابتي من اهل بيتي‏.‏ يقترف‏:‏ يفعل، يكتسب‏.‏ يختم على قلبك‏:‏ يغلقه عن الفهم‏.‏ يمحو‏:‏ يزيل‏.‏ يُحقّ الحق‏:‏ يثبت الحق‏.‏ بِكَلِمَاتِهِ‏:‏ بوحيه وأدلته وحججه‏.‏ بذات الصدور‏:‏ ما يختلج في الضمائر‏.‏

بعد ان ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات- بين هنا ان ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين‏.‏ فقل لهم أيها الرسول‏:‏ انا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما اطلبه منكم ان توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم‏.‏ ويدخل في ذلك مودّة النبي صلى الله عليه وسلم ومودّة قرابته من أهل بيته‏.‏ ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، ان الله واسع المغفرة للمذنبين‏.‏

ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن‏:‏ لقد قالوا ان ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو الا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وارادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏

فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر‏.‏

ثم يمتنّ الله على عباده فيكرّر أنه يقبل التوبة عن عباده ويتجاوز عما فَرَطَ منهم تفضُّلاً منه ورحمة بعباده‏.‏

‏{‏وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله‏.‏

ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، ويزيدهم خيراً على مطلوبهم من فضله

‏{‏والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر‏:‏ ويعلم ما يفعلون بالياء، والباقون‏:‏ تفعلون بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 35‏]‏

‏{‏وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

بسط الله الرزق‏:‏ وسّعه‏.‏ لبغوا‏:‏ لظلموا وتجاوزوا حدود الله‏.‏ بقدر‏:‏ بتقدير‏.‏ الغيث‏:‏ المطر‏.‏ قنطوا‏:‏ يئسوا‏.‏ وينشر رحمته‏:‏ تعم منافع الغيث وآثاره جميع المخلوقات‏.‏ الحميد‏:‏ المستحق للحمد‏.‏ بث‏:‏ نشر‏.‏ الدابة‏:‏ كل ما فيه حياة على هذه الارض‏.‏ على جمعهم‏:‏ يوم القيامة‏.‏ بمعجِزين‏:‏ لا تستطيعون ان تجعلوا الله عاجزا بالهروب منه‏.‏ الجواري‏:‏ السفن‏.‏ كالأعلام‏:‏ كالجبال‏.‏ رواحد‏:‏ ثابتة لا تتحرك‏.‏ صبّار‏:‏ كثير الصبر وضبطِ الأعصاب‏.‏ شكور‏:‏ كثير الشكر على النعم‏.‏ يُوبِقْهُنَّ‏:‏ يُهْلِكْهُنَّ‏.‏ ما لهم من محيص‏:‏ لا مهرب لهم‏.‏

إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء‏.‏ ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا‏.‏ ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه ‏{‏وَهُوَ الولي الحميد‏}‏‏.‏

ثم اقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء‏.‏

ثم بين الله تعالى للناس ان هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو انه‏:‏ كل ما يحلّ بكم ايها الناس من المصايب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم، وما اجترمتم من آثام‏.‏

ولو نظرنا الآن الى احوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك- لرأينا ان هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا‏.‏ فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وانما ينقصُنا صدق الايمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء‏.‏

ولو ان زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية‏.‏ ان العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، اما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فانه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا معنى ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله‏.‏

انكم ايها الناس لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم اذا هو عاقبكم‏.‏

ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها، فالله قادر ان يوقفَ الرياح فلا تجري‏.‏

‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ‏}‏

أو يهلك اصحابَ السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم‏.‏

ان الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر‏:‏ بما كسبت ايديكم‏.‏ والباقون‏:‏ فبما كسبت أيديكم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ ويعلمُ الذين يجادلون، برفع يعلم‏.‏ والباقون‏:‏ ويعلمَ بالنصب‏.‏